غزوة
كوبنهاجن (الحلقة التاسعة)
إن صراع
الحضارات قد يتحول إلى صراع أديان مالم تحل قضية الرسوم المسيئة للرسول الكريم
التي بدأت شرارتها الملتهبة من الدانمارك وتضامن الدول الغربية معها والسؤال الآن
هو كيف للدول العربية والإسلامية أن تخرج من هذه الأزمة متوحدة ؟ .
واستكمالا
للحلقات السابقة نود في البداية أن نستعرض أهم النقاط التي وردت في "الحلقة
الثامنة" لنستكمل بعدها آخر التطورات والأفكار التي نشرت ويمكن تلخيص أهم
النقاط فيما يلي : أن ثمة محرمات لا تطالها الحريات ومنها الأديان والأنبياء
والذات الإلهية فلا تدخل ضمن حرية التعبير , محاولة الصحف الأوربية الأخرى للتضامن
مع الصحيفة الدنماركية هو أمر في غاية الخطورة وهو ما قد يؤثر على التعايش
الإنساني برمته , المطلوب حالياً من المسلمين التعقل وعدم الاستجابة الى الاستفزاز
العالمي , السياسة الجديدة المعادية للعالمين العربي والإسلامي مبنية على ردود
الأفعال ليتحركوا ضد هذه الدولة أو تلك , عدم تكرار الأخطاء والاستفادة من التجارب
, وينبغي أن لا نصدق كل العبارات الرنانة مثل التقاليد العريقة والتعاون السلمي
والعلاقات المفتوحة مع العالم الإسلامي .
لم يفهم الكثيرين
أن الرسوم الكاريكاتيرية ومن نشرها ليسوا هم الغرب كله, بل هي جهات يمينية متطرفة
سواء في الدنمارك أم في النرويج أم في غيرها من الدول الغربية أو حتى من سيعيد
نشرها, وبالتالي فلا حاجة لنا باتهام الغرب بمجمله أو دول بأكملها, فلا توجد
مجتمعات كاملة تقصد إهانتنا وتجريح مقدساتنا , كتاب (القرآن وحياة الرسول) موجه
للأطفال للتعبئة الحضارية المستقبلية الحاقدة , إن الحريات والثقافة التي ينادي
بها البعض هي لتأجيج المشاعر وصناعة الكراهية لتقود العالم إلى بركان دموي ينسج
خيوطه هؤلاء المجردين من الأخلاق والمروءة والثقافة , إن بعض من يدعي حقوق الإنسان
هم من سيدمر هذا الإنسان الذي خلق لعبادة الله وحده وعمارة الأرض , الأمة
الإسلامية الآن تواجه الاضطهاد والتفرقة وانتهاك حقوق الإنسان باسم محاربة الإرهاب
العالمي , يجب إصلاح البيت من الداخل وبشكل عملي لا أن نتناول الإسلام من خلال
التنظير والتأطير , بل نقوم بتطبيق ذلك من خلال تعاملاتنا فيما بيننا كمسلمين
أولاً لنكون قدوة قبل أن نعمل على نقل هذه المعاني والقيم إلى العالم الخارجي
ولتكن في شكل صور ونماذج واقعية عملية وأمثلة رائعة تساهم في جذب الشعوب الأخرى
إلى الإسلام لا النفور منه ولتفادي حملة العداء المستعرة على الإسلام .
وفي هذه الحلقة
سوف نستعرض أهم ما تداولته وسائل الإعلام وآخر تطورات القضية ونحن مازلنا في بداية
الطريق وليس غريباً أن تتضارب و/أو تتقاطع بعض المصالح بين عموم المسلمين وبين أقوال
لا أفعال بعض أعضاء تنظيم القاعدة ونخص منهم بالذكر الفار من سجن باجرام العسكري
الأمريكي في أفغانستان، والذي دعا المسلمين الى توجيه ضربات في الدنمارك والنرويج
وفرنسا، ردا على نشر رسوم كاريكاتورية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك في
شريط فيديو بث على شبكة الانترنت وهذا التقاطع في الهدف والرؤيا الإستراتيجية وليس
بأي حال من الأحوال في طريقة التنفيذ التكتيكية والتي أضرت بهذا التنظيم الذي لم
يكن يعي حجم المخاطر والمفاسد ولم يطبق القاعدة الشرعية المعروفة وهي " أن
درء المفاسد مُقَدَّم على جلب المصالح " وذلك في صورة واحدة عند تساوي
المصالح والمفاسد .
ومن هنا نستطيع
القول أن هذا التنظيم وبعض أعضاءه يتخبطون في إدارتهم للأزمات فحين يقول الشيخ أبو
يحيى الليبي والمسمى محمد حسن " "يا أيها المسلمون انتقموا لنبيكم ...
من الدويلة الدنمارك ولقرينتها النرويج وفرنسا عدوة الحجاب والنقاب والعفة والطهر،
فإنها قد آذت الله ورسوله، وان شاء الله، لنود أن تدك دكا وتصير هشيما تذروها
الرياح".
ما هذا القول
الهراء وما هذه الكلمات الجوفاء التي نطق بها بين شولتين "حطموا حصونا وهدموا
كل بناء واجعلوا الارض بحارا من الدماء" , ولن تنفعه خلفية الصورة المزينة
بالمجلدات أو حتى لباسه وهو معمم بعمامة سوداء كدلالة على حالة الحرب أو حتى
بندقيته التي على مكتبه فالعالم الإسلامي بحاجة الى من يأخذ بيديه الى بر الأمان
لا أن يزج به في أحقاد وعداوات ولن ينسى المسلمون ماحل بهم من أذى جراء تلك الخطب
الرنانة والخرقاء في القيمة والمكانة .
المسلمون
يتعاطفون مع الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال أينما كانوا ولكن بأي حال من
الأحوال لن يتعاطفوا مع الفارين الذين يطالبون بالإرهاب والانتقام فهم بمثابة
الورم السرطاني الذي يجب استئصاله إلا إذا استتابوا وتابوا وحسنت توبتهم أما فيما
يتعلق بموضوع المقاطعة فهذا مرده الى السياسات الاقتصادية لكل دولة من الدول
الإسلامية ولها الحق فيما تراه مناسباً بهذا الشأن , أما المطالبة بتقديم واضعي
هذه الرسوم الكاريكاتورية المسيئة وتقديمهم للعدالة فهذا شيء مطلوب ومصالح الدول
مقدمة على المفاسد كما أن العدالة لن تقضي إلا بالحق .
كما أن احترام
الأديان وعدم المساس بمشاعر أي كان هو مطلب أممي وإن "حرية التعبير" لا
تستلزم الإهانة بالضرورة وإن اعتبرت من ركائز الحكومات الغربية عموماً كما أعلن
الرئيس الفرنسي جاك شيراك بعد ان استقبل مدير مسجد باريس دليل بوبكر في القصر
الرئاسي.
وإن كان الغرب
يطالب الآن بالحوار بين الأديان والثقافات وهو حريص على عملية الاندماج الصعبة
والطويلة التي التزم بها الإتحاد الأوروبي فأمة الإسلام حري بها أن تلتزم بها من
باب أولى وعلى الدول الإسلامية عموماً أن تبدأ ببرامج الاندماج بين أبناء الأمة
الواحدة والدين الواحد الذين هم أبعد ما يكونوا عن هذا الاندماج فسكان الدول
العربية والإسلامية يجري التفريق بينهم على أساس العرق واللون واللغة والهوية
وتمارس بحقهم أبشع الطرق الجاهلية والتي نهى عنها الإسلام منذ قرون ولنكن رواد هذا
التوجه ولنجعله من قيم الدول الإسلامية وتحت سقف منظمة المؤتمر الإسلامي .
وهذا سيمنع أي
تأويلات سلبية قد يستفيد منها الإرهابيون في تجنيد المزيد من الشباب ودفعهم إلى
التطرف وربما إلى العمليات الانتحارية , كما ينبغي أن تعالج قضية الرسوم بشيء من
العقلانية وأن نتعاون مع الإتحاد الأوروبي الذي يرفض ردود الفعل العنيفة
والتهديدات بمقاطعة البضائع حتى نستفيد من تحديد مفهوم "حرية التعبير"
كما ينبغي أن تكون , لأن الحرمان من الحرية يولد المعاناة ويفضي الى حب الانتقام
وهو المقدمة الأولى للإرهاب .
وفي هذا المقام
ينبغي أن لا نغفل انتقادات الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون الرسوم
الكاريكاتورية التي نشرت في الدنمارك وتناولت النبي محمد صلى الله عليه وسلم ،
متسائلا " ما اذا كان العالم يتجه نحو استبدال معاداة السامية بمعاداة
الاسلام ؟" , وتساءل كلينتون ايضا "هل يعقل ان يتم تعميم امور لا تعجبنا نقرأها في عناوين الصحف،
على ديانة بأكملها وعلى عقيدة او منطقة باسرها؟".
واضاف الرئيس
الاميركي السابق "في كل مرة نبني شراكات جديدة مع اشخاص جدد من مختلف انحاء
العالم، نقوض هذا النوع من الجهل والتداعيات التي قد تنتج عنه في القرن الحادي
والعشرين". وتابع "ما زال هناك جهل في بقية العالم للصورة المشرقة للشرق
الاوسط بما في ذلك الديانة الاسلامية".
وها هو الأمين
العام لمجلس الكنائس في النرويج والمسؤول عن العلاقات الدولية مع الأديان الاخرى،
اولاف تفيت. قال في بيان له " يجب الا تقبل اي كنيسة او اي رئيس لكنيسة ما
فعلته المجلة، ومن الصعب ان نجد غرضاً آخر لما فعلته سوى الإساءة الى المسلمين
وشعورهم الديني. لقد أدى ذلك، ومن خلال تغطية الصحافة العالمية، الى خلق انطباع
خاطئ عن المواجهة بين المسلمين والمسيحيين في النرويج، اننا وبالقدر الذي نحترم
فيه "حق التعبير"، فإننا بالقدر نفسه ندين استخدام هذا الحق للإساءة
للمؤمنين ".
ومما سبق أعلاه
يمكن القول يجب الدفاع عن الحرية بالطرق السلمية وإتباع سياسة الحوار بإعطاء فرصة
التعبير لمن لا نتفق معه ، إذ لا حوار ممكن بدون حرية ولا حرية بدون حوار .
وقبل أن أودعكم
أتساءل هل هناك علاقة ذات دلالة علمية أو دينية ستؤدي إلى غزوة كوبنهاجن ؟ وهل ستكون من الداخل أم من الخارج ؟ .
مصطفى بن محمد
غريب
الينوي – شيكاغو
صحيفة إيلاف الإلكترونية
24-05-2006م
No comments:
Post a Comment