Thursday, August 8, 2019

بداية نهاية إعصار التطبيع



بداية نهاية إعصار التطبيع 

 بدأت عاصفة التطبيع بنهاية عملية الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة وما لبثت أن تتحول الى إعصار يدور على الساحة السياسية بسرعة زادت من تطورات مراحله قبل التنبؤ بنتائجه , وكأن مكافأة المعتدي هي أسمى ما يلهث وراءه المطبعون لزيادة رصيد الإفلاس السياسي لديهم بإعلانهم الولاء الكامل دون أي تحفظات , وهي بوادر أزمة جديدة لتزيد من هوة الاختلافات العربية والإسلامية أو لنقل التخبطات السياسية التي ستؤدي بالعالمين العربي والإسلامي الى مزيد من التخلف والفرقة والتناحر وبعداً عن الديموقراطية الأمر الذي لا يخدم مصالح الأمة .

فلنخوض هنا في عمق المصطلحات والمفاهيم بخصوص ما يجري مع اليهود اليوم فالتطبيع مثلاً يمكن أن نستشف مفهومه من واقع ثلاث معاهدات تمت مع اليهود ( السلطة الفلسطينية و مصر و الأردن ) ويمكن القول : التطبيع هو تمكين اليهود من أرض إسلامية ، وعلى رقاب شعب مسلم ، ووجود سفارات , وبعثات دبلوماسية , ومكاتب تجارية ، وملاحق عسكرية , وثقافية وفنية ، لإستجلاب اليهود مما يؤدي إلى إنشاء فنادق ومطاعم وبنوك ومراقص ومسارح ولا يخفى أن هذه تتحول إلى أوكار للجاسوسية والماسونية والإرهاب .

وهنا نتساءل : هل يجوز استفتاء هذه الشعوب بخصوص التطبيع إذا ما أردنا أن نأخذ بمبادئ الديموقراطية ؟ أم ننتظر ليقرر الحكام مصير شعوبها حسب ما تملي عليهم ولاءاتهم دون ضمائرهم وتبعيتهم دون عقولهم ؟ .

اليهود استغلوا أحداث الحادي عشر من سبتمبر في العام 2001م ، وذلك بغرض المطالبة بتغيير المناهج لتسهيل عمليات التطبيع ، وإلغاء مفاهيم البراء والولاء ، والجهاد وكثير من المفاهيم التي تمس التوحيد ، وصلب العقيدة الإسلامية ، ولسوف يضيع الجزء الباقي بعد اكتمال التطبيع ، وكأننا ابتعدنا عن قول الله تعالى (  ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى) . {الأية: 120 سورة البقرة }. وهذا تأكيد واضح وصريح عن ملة اليهود والنصارى في هكذا قضية .

يقصدون بالتطبيع الكامل إقامة علاقات تجارية وسياحية ودبلوماسية وثقافية وتاريخية ؟ طبق قرارات هيئة الأمم المتحدة (المتصارعة) ، وليس طبقاً للدستور الإسلامي وهو القرآن والسنة ! . هذا هو معنى التطبيع عندهم . وبذلك نعرف أن الصلح بعد التطبيع يعني الاستسلام التام لهم وعلو لشأنهم (  اليهود ) حتى ترضى عنهم ( المطبعين والمتطبعين ) ، إنه الضياع للدين ، وفقدان المزيد من أراضي عربية وإسلامية  .

أما ما يقصد بالصلح فلا يهمنا منه إلا ما أصطلح عليه شرعاً والمجمع عليه من علماء الأمة وهو :
الصلح مع الكفار إن دعت المصلحة على وضع الحرب مدة معلومة إن كان عقدا ملزماً ، أو مدة مطلقة إن كان عقدا جائزا ممكن الفسخ وقت الحاجة , هذا هو حدود الصلح الشرعي بالإجماع , أما المصالحة المتضمنة تنازلات عقدية وإلغاء لأحكام شرعية فهذا صلح باطل شرعا بالإجماع ولا يجوز ، و ليس هو صلحا مسموحا به شرعا بل حقيقته استسلام ونكوص عن الشريعة وتخل عن بعض أحكامها وشرائعها ، فالأمر متروك برمته لمن هو الأقدر على حمل وزر الفتوى الشرعية في هكذا جدلية ، إنما العقل يقول ما لا يستعصى علينا فهمه وإدراكه في الدين وأحكامه الشرعية الواضحة التي لا تقبل القسمة على اثنين .

وهنا لنا وقفة مع السياسيين وبعض المثقفين أولئك الذين ينادون بالتطبيع ! ، وهل هم يستندون الى فتاوى شرعية تحكم القائد ؟ الذي يوجه بدوره الرعية ، ويتحمل وزر حكمه فإن أفلح نجا وإن طغى وتكبر كانت له عقبى النار ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، فلن يسود الوئام إن بعثروا الحرية ، وجعلوها مطلقة فيما يقولون ويعملون ، وتحت هذه المظلة الأيدلوجية نعود الى مبدأ الاستفتاء الديموقراطي وهل هم يعملون به ؟ أم أنهم تولوا أمر الأمة وشأنهم ومصالحهم الزائلة دون الرجوع الى علماء الدين الشرعيين ! ، ... ينبغي أن يعلموا أن شروط كتاب الله أحق ، وكلام الله هو الأبلغ وثوقاً , إذ لا استفتاء على ما يخالف أمر الله وشرعه المبين .

لن نخوض في جدل المسائل الفقهية وهناك الأقدر على التعامل معها بالحسنى ، فمردها الى علماء الأمة وفتاواهم التي ينبغي أن يأخذ بها ويعمل بموجبها لا أن تترك حبيسة الملفات غير المحسومة .



وبالإمكان تناول مفهوم التطبيع من معاجم اللغة علنا نجد فيها ما يجعلنا ندرك المفهوم اللغوي أولاً قبل الخوض في تفسير الظاهرة وأبعادها ، ومراحل تطور نظرياتها ، فهناك أمثلة في معاجم اللغة تقول : طبع الإنسان وسجيّته، وطبع الله على قلب الكافر، ومنه أيضاً طبْع السيف والدرهم، وتطبّع النهر إذا امتلأ , فهل نستطيع القول - وفقاً لما يحدث الآن على الساحة السياسية - أن التطبيع هو الوصول بالمنطقة الى حالة من الاحتقان (الامتلاء) السياسي ؟ ، أو حالة من التماثل بين اليهود والمسلمين في العادات والتقاليد ؟ .

وتكون تقاليدهم طبعاً فينا ومن سجايانا بحيث يزول مفهوم الولاء والبراء القائم على أساس الدين ويكون طبعنا مخالفاً لما شرع الله لنا وأن نلتزم بما يشرعه لنا القانون الدولي والمعاهدات والاتفاقيات الثنائية مع إسرائيل الذين أرادوا لنا التطبيع معها , بحيث لا يقبل  منّا غير الامتثال لهم - حسب مفهومهم للسلطة - . كيف يحدث هذا ؟ والتطبيع هو الامتلاء بما يوضع فيه كامتلاء القربة أو الإناء أو غيره . وبالتالي يزيد الضغط على الأطراف المطبعة لكبح جماح المقاومة الشعبية التي أصطلح عليها ( منظمات إرهابية ) حتى يتم تطبيعهم أو ترويضهم أو كسر شوكتهم أو نحو ذلك وهي ما أصطلح عليها " الاستراتيجية التطبيعية" .

تأتي المرحلة الثانية من تطور نظريات التطبيع وهي محاولة دخول دول إسلامية في التطبيع ظهرت بوادره في لقاء الباكستان مع إسرائيل لتسير قدماً نحو التطبيع حتى يتم سلخهم عن هويتهم  الإسلامية يتبعها بعد ذلك دول أخرى مثل ماليزيا وأندونيسيا والمبررات التي سيقت لهذا التطبيع كان منها هو تشجيع إسرائيل للقبول بقيام دولة فلسطينية بعد انسحابها من قطاع غزة لترسخ أهداف الهيمنة الصهيونية على المنطقة برمتها وتهميش الكبار فيها بعد تهميش مصر وتقييدها بمعاهدة السلام في كامب ديفيد حتى أصبحت مصر الآن طرفاً لتسوية النزاعات بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعدما تم تحييدها بالكامل بعد التطبيع ، بل كان ذلك من أكبر نتائجه .

ويمكن أن نعزو عملية الانسحاب للمقاومة العنيفة والانتفاضة المباركة التي تسعى أطراف عديدة الى إنهاءها بشتى الوسائل ، لأنها هي التي أفشلت ، بل أخرت عملية التطبيع تماماً كما أخرت المقاومة اللبنانية حينها ، وأفشلت عمليات التطبيع ، ونشوء مقاومة واسعة لها في الأوساط الشعبية حتى سقط هرم التطبيع وتحول الى سراب .

ظهرت بعد ذلك المرحلة الثالثة من نظريات التطبيع لتصبح ما سمي بنظرية التشجيع وتتبناها الآن باكستان وقطر والأردن ، وفحواها هو تشجيع الإسرائيليين من خلال التطبيع على التنازل الأمر الذي تأكد فشله في أكثر من مناسبة ، فقد حصل أن تحركت عجلة التطبيع إلى الأمام قليلاً في المرحلة السابقة، لكنها لم تشجع الإسرائيليين على التنازل ، بل انعكست على مساراتها تماماً ، وارتدت خاسرة الأمر الذي أدى الى تنازلات عربية وإسلامية أكثر مما ينبغي دون التطرق الى أسس حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين حتى بعد انسحاب إسرائيل من غزة وهي ترفض الى الآن عودة اللاجئين الى القطاع .

تطورت المرحلة الثالثة لتبدأ المرحلة الرابعة من نظريات التطبيع لتصبح متجددة في أهدافها ، إذ هي محاولة لتقوم بربط التطبيع بالمفاوضات ومن ثم الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة والقبول بخارطة الطريق لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة - كما يبثون - جنباً الى جنب مع الدولة اليهودية وهو مصدر الإلهام لمن صاغ خارطة الطرق في مرحلتها الثانية وهي الدولة المؤقتة - هكذا أرادوا لها - مقابل التطبيع الذي لا يقوم العمل به زلفى ، وهو ما ظهرت بوادره هذه الأيام لتستعيد إسرائيل ما كان يربطها من علاقات مع الدول العربية ، بل زادت عليه مع دول إسلامية أخرى لها شأنها النووي كالباكستان .


مصطفى بن محمد غريب
الينوي – شيكاغو


صحيفة إيلاف الإلكترونية 21-09-2005م


No comments:

Post a Comment