أحداث العنف في فرنسا
(الحلقة الأولى)
عندما قررت الكتابة عن
أحداث العنف الجارية حالياً في فرنسا بلغت بي الحيرة مبلغاً فمن أين أبدأ
فالعلاقات متشابكة وحساسة ولهذا لن أستطيع إعطاء الموضوع حقه من التغطية إلا إذا
تطرقت الى عدة أمور وإنني على يقين بأن العناصر التي سأقوم بتلخيصها ستكون ناقصة
كأي عمل بشري ولكن ستسلط الضوء على الموضوع بشكل على الأقل أراه مقبول من وجهة نظري.
ويمكن تلخيص تلك
العناصر بما يلي: السياسيون، أسباب الهجرة , انتفاضة الجائعين أو الفقراء , جرس
إنذار , أحداث سبتمبر , الفشل في انتهاج
التعددية العرقية والثقافية , آثار إيجابية , آثار سلبية , المرجعيات الدينية
والثقافية , الحرب على الفقر بدلاً من الحرب على الإرهاب , توجهات وسياسات , إستراتيجيات الاندماج , نتائج
متوقعة .
وكل عنصر من العناصر
السالفة الذكر يندرج تحته العديد من النقاط وهي التي ستعطي انطباعات متابع للأحداث
من بعيد ومن خلال نشرات الأخبار وتصريحات بعض المسؤولين وتعليقات النقاد من مختلف
التخصصات والاتجاهات ونأمل أن نعطي القارئ فائدة وهي الهدف من وراء تلك الكتابات
التي تحظى باهتمامي على أقل تقدير.
السياسيون
تجاهلوا الحقائق على
الأرض وهناك العديد من الأحياء داخل المدن تعاني من الفقر الشديد ولكن الإرادة
السياسية للقادة الفرنسيين اهتمت بنشر مظاهر التحضر وكل أسباب النجاح في العاصمة
والمدن الرئيسية فقط أما المناطق الأخرى فلم تحظ باهتمامهم ، وأدى هذا الفقر الى انتقاله
من جيل الى جيل وبالتالي برز الجيل الثاني من أبناء المهاجرين الفقراء وغير
المتعلمين في عقد الثمانينات ومعه كل التراكمات السلبية حتى انفجر الوضع وحدثت
الأزمة .
كما أن هناك العديد من
السياسيين نشروا مزيداً من الحقد والكراهية مثل الأحزاب اليمينية المتطرفة وطالبوا
بمزيد من التشريعات التي تحد من الهجرة والتهجير والترحيل مما أدى الى احتقان
الوضع ومن ثم يكون أكثر قابلية للانفجار .
وبحجة الحرب على
الإرهاب بدأت بعض الأطراف السياسية بالمطالبة بإصدار قوانين جديدة ضد الإرهاب
وربما انتقلت العدوى من بريطانيا بعد أحداث تفجيرات قطارات الأنفاق في يوليو الماضي
الأمر الذي جعل الحكومة أن تتحفز وتستعد لمنع حدوث عمليات إرهابية داخل فرنسا
ولاسيما أن التقارير الاستخبارية كانت تتوقع دائما عملاً إرهابياً على غرار
الأعمال في اسبانيا وبريطانيا وبدأت تناقش سن قوانين لحماية فرنسا من آثار الإرهاب
المدمرة.
كما نشط السياسيون من
خلال وسائل الإعلام الغربية في الربط بين الإرهاب والإسلام وهو الذي جعل فرنسا
تنادي بالإسلام الفرنسي ظناً منها أن الإسلام يمكن أقلمته بما يناسب كل إقليم أو
دولة على حده، ولا شك أن فرنسا قامت بحملة واسعة بعد إصدار قانون منع الحجاب في
المدارس ومنع أي مظاهر دينية كالقلنسوة اليهودية أو الشارة الهندية أو أي علامات
دينية غير المسيحية متمثلة في الصليب أو الزي الخاص بالقساوسة والرهبان.
ومن أجل تعزيز مواقف
السياسيين الانتخابية ظهرت بعض الأطراف للحصول على أصوات أحزاب اليمين المتطرف
بتصريحات وصفت سكان الأحياء الفقيرة بالحثالة ولهذا حذرت شخصيات إسلامية بارزة من
توظيف أعمال العنف في الضواحي الفرنسية ومن ثم تدخلات المؤسسات الإسلامية كورقة
انتخابية لصالح الأجنحة المتنافسة في السباق الرئاسي، كما حذرت بعض الشخصيات
الإسلامية من توزع الولاءات بين المرشحين للانتخابات القادمة .
وعند بداية الأزمة طالب
بعض الوزراء التصدي لأعمال العنف بقوة دون العمل على امتصاص موجة الغضب والعنف
وبدلاً من استقالة وزير الداخلية والتضحية بوزير سياسياً ركبت الحكومة رأسها واستمرت
في الاعتقال والمداهمة وفرض حظر التجول دون دراسة أسباب موجة العنف وبدأت تطلق
تحذيرات ضد المهاجرين لدرجة أن أعمال العنف تزايدت وشملت مدن أخرى حتى تم إقرار
قانون الطوارئ الذي عمل به في الخمسينات من القرن الماضي ولكن لمدة محدودة وليس
كبعض الدول العربية التي عملت به أكثر من ربع قرن.
ومنذ بداية الأحداث لم
يظهر زعيم ذو كاريزما يستطيع أن يخفف من حدة الشعور بالغضب لدى الجماهير التي ملت
من المظاهرات التي لم تكن تعطي نتائج إيجابية فأخذت على عاتقها نوع من الانتفاضة
الشعبية العارمة بين صفوف الفقراء والمهاجرين، كما لم يقف وزير أو رئيس وزراء
بإقرار التقصير في معالجة الفقر إلا بعد أن تطورت الأزمة لدرجة يصعب معها السيطرة
حيث ان السيطرة في بداية الأزمة أسهل من السيطرة بعد استفحال أعمال الشغب .
أما السياسيون الذين
طالبوا بمعاقبة الخارجين عن القانون تبنوا عبارات في ظاهرها الرحمة ومن باطنها سوء
العذاب وهي عبارات حق أريد بها باطل، ففرنسا تعتبر من الدول المتقدمة ودولة
القانون والديموقراطية من خلال صناديق الاقتراع والتي تنادي بمبادئ العدل
والمساواة والحرية في كل مكان.
الهجرة والمهاجرين
تحظى فرنسا بعدد كبير
من المهاجرين ومنذ عقود حتى أصبح الجيل الثاني والثالث لا يعرف له لغة غير
الفرنسية ولا ثقافة غيرها حتى وإن كان يؤمن بديانات مختلفة ومن أهم أسباب الهجرة
تعرض المهاجر الى الفقر في بلاده فيلجأ الى الهجرة لعله يجد فيها عملاً يقتات به
أو قد يفر من الأنظمة القمعية في بلاده فيرى في النظام الغربي نوع من الحرية
والديموقراطية فيستقر فيها على اعتبار أنها الجنة الموعودة فيقبل الذل والهوان على
اساس أن شيء أفضل من لا شيء ويبقى يكدح ويعمل لتوفير لقمة العيش الكريم له ولأسرته
.
ولكن ليس كل المهاجرين
ممن يبحثون عن عمل أو مضطهدين في بلادهم ولكن منهم أيضاً من يهاجر هرباً من
السلطات التي تبحث عنه لأنه من أصحاب السوابق أو من ارتكب جريمة ويريد أن يختفي بعيداً
عن مسرح الجريمة , ولم يكن يعلم أن الهجرة لابد أن يتوفر لديه الاستعداد النفسي للاندماج
في المجتمع الجديد سواء كان من الأخيار أو
من الأغيار , ويقبل في المجتمع بكل إيجابياته وسلبياته ويستقر فيه أو يفكر في
العودة الى بلده الأصلي إذا لم يستطع الاندماج والتأقلم مع المجتمع الجديد ومن ثم ارتكاب
جرائم جديدة بحق من آواه واحتضنه .
انتفاضة
الفقراء أو الجائعين
هذا
هو الاسم الذي أطلق على مثيري أعمال الشغب في الضواحي والمدن الفرنسية ومعروف أن
من قام بهذه الأعمال هم الشباب من الجيل الثالث والرابع أي بحكم القانون من
المواطنين ولكن هؤلاء المواطنين تجمعهم أكثر من صفة وهي الفقر والجوع والبطالة
والعزلة عن المجتمع الفرنسي الذي ولدوا وترعرعوا فيه ولكن لم يستطيعوا الاندماج
الكامل فيه إما بسبب تمسكه بعادات الآباء والأجداد ومعظمهم من العرب وغالبيتهم من
المغرب العربي التي كانت مستعمرات فرنسية سابقة أو من الدول العربية الفقيرة وإن
كان منهم أفارقة غير عرب ومن أصول أخرى سواء إسلامية وغير إسلامية ولم تأخذ تلك
الأحداث الطابع الديني لتكون فتنة طائفية بالمعنى الدقيق .
ومن
أسباب عدم اندماجه الكامل هو تغاضي وتراخي السلطات الفرنسية عن الوعود التي كانت
قد قطعتها على نفسها فبلغ السيل الزبى أو كما يقال القشة التي قصمت ظهر البعير فلم
توفر لهم السكن المناسب والعمل المناسب ولم تتبنى إستراتيجيات الدمج في المجتمع
الفرنسي من خلال بعض الأنشطة الرياضية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وحتى
السياسية , كما لم تقوم بتحسين المستوى المعيشي لهؤلاء الفقراء وكان من مواقفها
اللامبالاة والتجاهل التام .
ومن
يحاول أن يدرس الظاهرة ومن يقف وراء الأحداث فقد يكون قريباً من معرفة السبب
الحقيقي وقد يشطط في القول ولاسيما أن الأحداث مازالت مشتعلة ولم يتمكن العديد من
صناع القرار والباحثين من معرفة الأسباب الحقيقية وتبقى كل الأطروحات في هذا
المجال من باب التوقعات والتكهنات , فقد يكون الفقر هو السبب وقد تكون التصريحات
العنصرية من بعض الوزراء وقد تكون هناك جهات خارجية تعمل على إذكاء الفتنة
وإشعالها كما صرح بذلك المدعي العام الفرنسي إيف بوت فإعتبر أن أعمال العنف كانت
منظمة دون أن يوضح الجهة التي تقف وراءها .
وهناك
من تجرأ القول واعتبر أن أمريكا وراء تلك الأحداث وبسبب الخلاف الفرنسي الذي ظهر
الى العلن أعقاب الحرب الأمريكية على العراق , وهناك من قال أن إسرائيل هي التي
تقف وراء تلك الأحداث بسبب الخلاف الفرنسي الإسرائيلي أعقاب تصريحات شارون بدعوة
يهود فرنسا بالعودة الى إسرائيل وفي أسرع وقت ممكن , والبعض يتهم القاعدة وخصوصاً
من التصريحات التي كان يدلي بها زعماء التنظيم وهددوا وتوعدوا العديد من الدول وقد
تكون هناك أسباب أخرى جديدة أو مجموعة من الأسباب السالفة الذكر .
ويخشى
العديد من الخبراء أن تنتقل حمى الأحداث الى الدول الأوروبية المجاورة وإن بدت
بوادر ذلك تظهر في أكثر من دولة أوروبية كما يخشى أيضاً من أن تنتقل العدوى الى
سكان المخيمات الفلسطينية في كل من سوريا ولبنان والأردن على اعتبار أنها تعاني
نفس الظروف وتتوفر لها نفس المعطيات وتلبية لدعوات تقول يا فقراء العالم اتحدوا لأن
المصائب تجمعن المصابينا , وسوف نستكمل في مقال آخر باقي العناصر التي تحدثنا عنها
في مقدمة المقال .
مصطفى
بن محمد غريب
الينوي
– شيكاغو
صحيفة
الحقائق اللندنية 10-11-2005م
No comments:
Post a Comment