الوهم المتبدد والهم المتجدد
أكدت عملية "الوهم المتبدد" أنها الورقة الرابحة للمقاومة
الفلسطينية ولكنها في نفس الوقت "الهم المتجدد" للشعب الفلسطيني أينما
كان وأينما وجد وهي بمثابة ورقة خاسرة لحجم الدمار الذي لحق بالأنفس والثمرات جراء
العدوان الإسرائيلي المتكرر , هذه التناقضات التي يعيشها الشعب الفلسطيني هي القدر
المفروض عليه سواء سار على درب الكفاح المسلح أو سار على درب السلام أمران أحلاهما
مر , ومن هنا تزداد القضية تعقيداً وتستعصي على الحل حتى فقدت فلسطين برنامج
الإجماع الوطني والإجماع العربي والإجماع الدولي , وإن كانت فلسطين هي ملتقى
القارات ولكنها في الواقع أصبحت ملتقى التناقضات لذا فهي بلا ريب مفتاح السلم
والحرب معاً .
لم تأت عملية "الوهم المتبدد" دون تخطيط وكذلك عملية
"أمطار الصيف" لم تأت أيضاً دون تخطيط ولم تأتي كردة فعل , ولكلا
العمليتين أبعاد سياسية يبررها كل طرف بما يخدم مصالحه والمحصلة النهائية تتمثل في
النتائج التي سيجنيها كل طرف من عمليته والضحايا هم أصحاب "الهم
المتجدد" أبناء الشعب الفلسطيني , وتعمل إسرائيل على معاقبة هذا الشعب
ومطاردة أبناءه في كل مكان من دول العالم عبر نفوذها وسيطرتها على أصحاب القرار في
معظم دول العالم بما فيها بعض الدول العربية التي تمارس أقصى درجات التجويع لهذا
الشعب بل ومساومته على لقمة عيشه وحليب أطفاله وأدوية جرحاه وهويته التي يناضل من
أجل الحفاظ عليها .
وتأتي عملية "أمطار الصيف" بعد العناق الحار بين إيهود
أولمرت ونظيريه الفلسطيني والأردني في لقاء البتراء , الذي مهد لبتر أعضاء حماس في
الحكومة الفلسطينية ولم تعد المؤامرة أمراً سرياً بل أصبحت علنية للأعمى والبصير
على حد سواء , بل مازالوا يرفضون أن يسألهم أحد عن أسباب العناق والتصريحات التي
يطلقونها بين الحين والآخر وكأنهم الأوصياء على القضية الفلسطينية بما يقدمونه من
دعم دراهم معدودات نسمع عنها في الفضائيات ولا يستفيد منها الشعب الفلسطيني على
أرض الواقع لأن إسرائيل تتحكم في المعابر والحدود والسياسة والاقتصاد وقرارات مجلس
الأمن .
الشعب الفلسطيني لم يبقى له شيء يخسره وماذا بعد مصادرة الحرية
والكرامة من خسارة ؟ وعليه فعدوان إسرائيل لقطاع غزة لن يزيد من الخسارة شيئا، بل
ربما سيكون مفيداً في كشف نوايا العرب واليهود تجاه الفلسطينيين الأمر الذي يحتم
على هذا الشعب أن يعتمد على الله ثم على إمكانياته الذاتية ولا ينتظر مساعدة
أوعوناً من أحد وبالتالي سيكون أكثر واقعية في التعامل مع المستجدات والأحداث التي
يواجهها بمفرده وخصوصاً أن إسرائيل التي تسعى لتنفيذ "خطة التجميع"، بعد
أن أدركت أن قطاع غزة لن يكون سهل الاجتياح مع تكدس كل أنواع السلاح .
وجدير بالمقاومة الفلسطينية بعد كل هذا الدمار أن تحتفظ بالأسير
الإسرائيلي وعدم تسليمه بالمجان ولنا في تجربة "حزب الله" عبرة وعليه
ينبغي رفض الوساطة الضاغطة ولاسيما العربية والفلسطينية التي تهتم فقط بتسجيل
إنجازات لموقعها وليس للشعب الفلسطيني , وليكن وسيط دولي قادر على الوفاء بالتزاماته
وأن يستبعد الوسيط الأمريكي والبريطاني الذين لم يحافظا على أحمد سعدات ورفاقه
عندما اجتاحت إسرائيل السجن واختطفتهم على مرأى ومسمع من العالم أجمع .
ولا يدل رد الفعل الإسرائيلي إلا عن تخطيط مسبق عجلته عملية الأسر
وإفرازات الحوار الوطني التي انتهت بتوافق كاد يؤدي إلى حكومة وحدة وطنية التي
ترفضها إسرائيل فكان اقتحام قطاع غزة الذي أعلن عنه مراراً ، ومخطط اعتقال الوزراء
والنواب ليس جديداً وكان هو الحلقة الأخيرة والمؤكدة في إجراءات حصار حماس كحكومة
وحركة , وإجبارها على التنحي عن الحكم أو إعلانها الاستسلام لشروط الإذلال الإسرائيلية
والدولية.
إذا فالمخطط الإسرائيلي كان يهدف بالأساس إلى تقويض حكم
"حماس" بعد أن يئس من طول صمودها وصبرها وتنامي التكيف الدولي والمحلي
على وجودها, ثم تعاظم هذا الهدف الى تقويض السلطة ذاتها , كما استطاعت حماس أن
تفكك قليلا من ألغاز الحصار عليها، فاستوعبت التهديد الداخلي فأنجزت وقامت بتعديل
وثيقة الوفاق الوطني بما لا يضر بثوابتها، واستخدمت أوراق المقاومة في صد العدوان
الدموي، وعمدت إلى إدخال الأموال عبر معبر رفح بصورة علنية ، وحتى ما أتت به آلية
الرباعية من حلول مالية كان مؤشرا على تبيان الموقف الدولي إزاءها وكأن العالم
أجمع لايريد لهذه الحكومة المنتخبة ديموقراطياً أن تبقى ، ولذا كان المخطط
الإسرائيلي سريعا في التنفيذ بمباركة تكاد تكون عالمية لولا المظاهرات التي بدأت
من عواصم غربية لنصرة القضية قبل أن تتبعها دول عربية .
الموقف الأميركي المنحاز بامتياز لإسرائيل لم يبرر لها فقط ما تفعله
من عدوان جديد واغتيال فاضح للديمقراطية الفلسطينية وهذا يدل على أن أمريكا
وحلفائها وإسرائيل جميعهم لا يرغبون في الإصلاح الحقيقي ولا في الديموقراطية لأي
من الدول العربية حتى يبقى مسلسل الصراع مستمر ابتداء باحتلال أفغانستان والعراق
مروراً بالتآمر على إيران وسوريا ولبنان , وبذلك تكشف أمريكا القناع عن وجهها
الحقيقي تجاه خطط "الحرية والإصلاح" التي تريده إصلاحاً مفصلا على
مقاسها وهي لاتقيم للحريات وزناً ، وهذه لطمة مهمة في وجهة المناصرين للنموذج
الأميركي من العرب المتصهينين .
الموقف العربي الرسمي لا يكف عن المبادرات والتطوع لدور وسيط يكسبه
بعض الود لدى الولايات المتحدة بحجج واهية مثل العقلانية والواقعية ، فمن جهة عمدت
كل الوساطات العربية إلى الإفراج عن الجندي بدون ثمن، بينما لم يتفوه أي منها بشيء
إزاء الجرائم الإسرائيلية السابقة , بل والأنكى أن مصر عمدت إلى نشر 2500 جندي
استجابة للطلب الإسرائيلي الخائف من نقل الجندي خارج قطاع غزة، وهم بالطبع غير
آسفين على اعتقال الديمقراطية الفلسطينية لان نجاح حكومة حماس كان سيكلفهم الكثير
داخليا.
لذا يجب السكوت لأن المصالح متقاطعة، وسقوط المراهنة الأميركية على
إصلاح يؤدي إلى إسلام أميركي يسعدهم أيضا، وشراكتهم بالحصار ضد حكومة حماس كان
معروفاً من قبل، بل حتى تهديد سوريا بطائرات أف-16 مجددا لم يفعلوا شيئا إزاءه، مما
يدل على أن الوضع العربي وصل إلى الحضيض , لماذا ؟ لأنه لم يتخذ مواقف إيجابية
لنصرة القضية وهو الذي ضحى بأفغانستان والعراق واليوم هو يجدد التضحية بفلسطين ولن
يفعل شيئا حتى ولو جرى احتلال العواصم العربية واحدة تلو الأخرى، لذا لا مراهنة
فلسطينية على هذا الموقف المتخاذل .
ومن المواقف المتخاذلة أيضاً ما صرح به البابا بنديكت السادس عشر لإنهاء
أزمة الرهائن في المناطق الفلسطينية قائلا ان على النشطاء الفلسطينيين أن يطلقوا
سراح الجندي الاسرائيلي وعلى الجانبين أن يستأنفا الحوار, وأهمل إنهاء اعتقال أعضاء
الحكومة الفلسطينية وباقي الأسرى قبل الحوار وناشد القيادتين الاسرائيلية
والفلسطينية وبمساهمة كريمة من المجتمع الدولي ان تسعيا الى تسوية للنزاع بعد
مفاوضات حيث ان التسوية هي الوحيدة التي من شأنها ضمان الامن الذي ينشده شعباهما
الأمر الذي يجعلنا نقول حتى أنت يا بابا .
وأخيرا فإن عملية "الوهم المتبدد" جرت بامتياز عسكري وسياسي
ويمكن أن تتوج بتسجيل نجاح إستراتيجي للمقاومة الفلسطينية بالإفراج عن أسرى
فلسطينيين لولا تورّط جهازيْ "الأمن الوقائي" و"المخابرات
العامّة" في الكشف عن مكان المجنّد الصهيونيّ الذي أسَرَته "المقاومة
الفلسطينية" وقتلته في وقتٍ لاحق الأمر الذي عقد مهمة المقاومة في إدارة
الأزمة أمنيا وسياسيا وأفرزت "الهم المتجدد" , لمعاناة كل فلسطيني يعيش
في هذه الحقبة من الزمن .
مصطفى بن محمد غريب
الينوي – شيكاغو
صحيفة الحقائق اللندنية 10-07-2006م
No comments:
Post a Comment