Thursday, August 8, 2019

الولايات المتحدة العراقية وعاصمتها الفلوجة


الولايات المتحدة العراقية وعاصمتها الفلوجة

 (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين* إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم اللّه الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الخائنين).

الفلوجة، المدينة الباسلة المجاهدة الصابرة، وقفت في وجه القوة العظمى في العالم وعاشت الحصار وأعدت قوات الإحتلال العدة لحربها وكأنها تعد لمعركة فاصلة , وكشفت الحملة العسكرية على الفلوجة عن مقاومة شرسة ومسألة أخرى لم توردها وسائل الإعلام وهي أن أهالي المدينة شكلوا لهم سلطة مستقلة , ولم تنجح المفاوضات من إعادة بسط الحكومة المركزية سيطرتها على المدينة لذا تعرضت المدينة لكل أشكال التدمير بحجة أن الزرقاوي وجماعته يعيثون في المدينة فساداً وللإستفادة من أسطورة الزرقاوي لإتخاذه حجة أخرى لتدمير مدينة أخرى فقد قيل أنه هرب قبل أن تحكم القوات الغازية سيطرتها على المدينة

ما حدث في الفلوجة "ملحمة الجهاد والفداء"، إذ واجه المدنيون العزل والمقاومون بأسلحتهم البدائية وأجسادهم أعتى جيوش العالم التي لم تكتف بقصف الطائرات والصواريخ وكل الاسلحة الفتاكة التي تمتلكها، وإنما لجأت ايضا للأسلحة المحرمة دولياً ، جاءت معركة الفلوجة بعد معركة سامرّاء, التي قامت من خلالها قيادة المقاومة بجرّ قوات الإحتلال إلى المدينة من أجل اسقاط جوهر الخطة العسكرية في العراق، وهي تجنّب الوقوع ضمن مرمى أسلحة المقاومة واستخدام الشرطة العراقية كدروع بشرية تحمي قوات الاحتلال من نيران المقاومة , وليس غريباً أن تقوم جماعات المقاومة بإستعادة السيطرة على مراكز الشرطة في الموصل خلال ساعتين وتبقى الحرب سجالاً بين مقاومين وغزاة وكأنما الموصل أصبحت لها حكومة مستقلة عن الحكومة المركزية في بغداد ومناطق الأكراد تشهد هدوء نسبي وسلطة مستقلة لايسري عليها قانون الأحكام العرفية الذي أصدره رئيس الوزراء المؤقت , ومناطق الشيعة في الجنوب إلتزمت الصمت تجاه أحداث الفلوجة وكادوا ينسون ما ألم بهم من أحداث في النجف عندما هبت الجماهير لنجدتهم ونصرتهم من كل حدب وصوب لدعم مقاومتهم ولكن شيعة العراق واهمون إذا إعتقدوا أنهم سيتسلمون سلطة أو حكم إذا دخلوا الإنتخابات معتمدين على كثافتهم السكانية وذلك لأن أمريكا دفعت قواتها للعراق وقدمت الخسائر البشرية والمادية ليس من أجل تسليم الحكم لتيار شيعي ولكن لواشنطن شيعتها الخاصون بها ويأتمرون بأمرها وتستجيب للإملاءات والشروط التي تفرضها وبالتالي لايمكن أن تكون هذه الإنتخابات نزيهة في ظل قوات غزو وإحتلال مهما قامت بالترويج لعراق حر وديموقراطي وجديد يختلف نظامه عن النظام العراقي السابق، وانه عراق “حضاري” ، مادام أمريكي الهوية والتوجه، ويخدم مصالح “اسرائيل” أيضاً.

ومما تقدم نستطيع أن نستنتج أن هذه الحرب ماهي إلا مقدمة لتقسيم العراق لتصبح كل محافظة دولة مستقلة ,مما ينذر بنشوب حرب أهلية طاحنة ولاسيما أن حمامة السلام التي كانت تحمل غصن الزيتون إختفت من سماء العراق وأستبدلت بطائرات الأباتشي وهذا يعني أن غصن الزيتون تحول الى قذائف وصواريخ تحملها هذه الحمامة الأمريكية الصنع ولن تخلف وراءها إلا النار والدمار وقصف للأعمار ومن الغريب اننا نسمع عن إعادة الإعمار فهل يجدي إعادة الإعمار بعد قصف الأعمار .

ماهي النتائج التي تحققت خلال سنة ونصف من الغزو والإحتلال ؟ وهل لازالت القنوات العربية تنشر أحداث الفلوجة ؟ أم أن التعتيم الإعلامي الذي فرض عليها هو الوجه الآخر للديموقراطية ؟

وكأنما الديموقراطية هي التي تنشر الدمار والخراب والفوضى في العالم ، بدليل أن الإرهاب زاد بعد إعلان الحرب على العراق بشهادة الرئيس الفرنسي جاك شيراك , ولكن أي إرهاب إنه إرهاب الدول وخصوصاً في عهد زعيم المتطرفين اليمينيين الجدد الذين تحكموا بقرارات البيت الأبيض والذين لازالوا يسخرون كل خططهم وعملهم لخدمة الحركة الصهيونية ، وها هي سنوات أربع عجاف أخرى سيصلى أتونها أبناء جلدتنا من العرب والمسلمين بعد ان تربع الزعيم على عرش الدولة العظمى لفترة رئاسية ثانية ، ووزير دفاعه لازال قابع في مكانه ومستشارة الأمن القومي ستتولى قيادة السياسة الخارجية الأمريكية لتزداد إسرائيل طرباً وفرحاً بمقدمها لأنها سوف تعني بتنفيذ المخطط الصهيوني بكل دقة حرفاً بحرف وكما هو مخطط , لأنها ستزداد قرباً من الرئيس بما لها من قدرة على تلخيص التقارير والسياسات والقرارات لأن الرئيس لايحب أن يشغل باله بأدق التفاصيل , وسيستمر الصمت العربي الرهيب وسيحافظ على ضبط النفس , أما وزير الخارجية المستقيل سيبقى مبعوثاً للسلام لخدمة إسرائيل , وسيتم تعيين مستشار جديد للأمن القومي ولابد أن يكون يمينياً متطرفاً حتى يزيد من إحكام قبضة الرئيس على الأمن القومي , وزير العدل إستقال وقبلت إستقالته لأن دوره إنتهى وخصوصاً بعد القانون الذي أصدره والمثير للجدل , هناك خمسة وزراء إستقالوا وسيتم تعيين وزراء جدد طبعاً يجب أن يكونوا من اليمين المتطرف حتى تزداد هذه الحكومة تطرفاً ضد العرب والمسلمين , رئيس الإستخبارات الأمريكية إستقال مع إثنان من أهم أعضاء الإستخبارات الأمريكية , الحزب الجمهوري زاد من بسط نفوذه على مجلسي الشيوخ والنواب أي أن الحزب الديموقراطي تراجع , فهل يعني ذلك أن الديموقراطية تراجعت في أمريكا نفسها ؟ أين مشروع الشرق الأوسط الجديد ؟ أين وصلنا في خارطة الطريق ؟ أين الإنتخابات العراقية ؟ ماذا جرى في النجف ؟ وماذا يجري في الفلوجة ؟ وماذا سوف يجري في الموصل قريباً ؟ وهل إجتماع شرم الشيخ حقق أهدافه التي من أهمها منح مزيد من الشرعية لقوات الإحتلال الأمريكية ؟ وهل إعادة إعمار العراق لايصلح إلا بعد تدمير العراق أولاً ثم إعادة الإعمار؟ وإذا إفترضنا جدلاً أنه يمكن إعادة الإعمار فهل يمكن إعادة أعمار من أزهقت أرواحهم في مختلف المناطق العراقية ؟ أم أن الأعمار بيد الله والإعمار بيد البشر ؟ .

إن من يتباكى على الفلوجة ويقول إنها مسكينة فهو مخطيء , فالفلوجة قدمت للتاريخ دروساً وعبر في المقاومة والنضال من أجل الحرية ودفاعاً عن النفس وقد قدمت صور تحتقر جندي الإحتلال الذي أجهز على الجريح والطاعن في السن وفي مسجد الله فلا هم إحترموا دور العبادة ولا الجرحى ولاالشيوخ ولا الأطفال ولا النساء , وقالت منظمات لحقوق الانسان إن قيام جندي من مشاة البحرية الامريكية بقتل جريح عراقي يمكن أن يرقى الى جريمة حرب ويبين ان هناك حاجة لكي تصبح القوات الامريكية أفضل تدريبا بشأن قوانين الحرب . وقالت منظمة العفو الدولية إن "إطلاق النار المتعمد على مقاتلين غير مسلحين وجرحى لا يمثلون خطرا فوريا هو جريمة حرب وفقا للقوانين الدولية ولذلك هناك إلتزام على السلطات الامريكية بالتحقيق في كل هذه التقارير ومعاقبة المسؤولين عن مثل هذه الجرائم أمام القانون." نحن المساكين لأننا لم نزل مذهولين , خائفين , مرتعشين ومصدقين منظمات العفو .ولكن يتسائل المرء بينه وبين نفسه عن سر هذا التكالب الأممي على العراق ومن بعده الشرق الأوسط بأكمله . وتهيىء مسرح الجريمة في ظل تعتيم إعلامي شديد لم تعهده حروب سابقة قط، وتستمر في قصف المدن والقرى العراقية بشكل يومي ومتواصل إنها نار الحقد والتعطش للانتقام من قبل جنود دولة عظمى حاملة لواء الديمقراطية البالي الممزق لترويج الديموقراطية الغربية الزائفة . فلم ولن تجد الجواب المقنع لهذه الحرب الظالمة إلا إذا عرفت أنه الحقد والكراهية والسيطرة والرغبة في الإحتلال ، ولن تجد السبب المناسب لاحتلال العراق إلا إذا آمنت أن إسرائيل وأمريكا وجهان لعملة واحدة فأمريكا ملتزمة بأمن إسرائيل أما دول المنطقة لا أمن لهم . إن هذه الجرائم يندى لها جبين الانسانية في ظل صمت مطبق من قبل الأمم المتحدة وعواصم العالم أجمع . هل يتوقع الامريكيون ان ينتهي عدوانهم على الفلوجة بإخضاعها وإخضاع المدن العراقية الاخرى، تمهيدا للانتخابات الصورية القادمة ؟ وأقول صورية لأن معظم القوى الإسلامية قاطعتها .

لقد أعاد احتلال الولايات المتحدة للعراق حقبة الاستعمار القديم التي تصور الكثيرون أن الماضي طواها تحت عباءته ولن يكون لها حضور في القرن الحادي والعشرين. فالاحتلال الأمريكي للعراق أشبه بعهود الانتداب البريطاني والفرنسي، وأي حكومة في ظل هذا الإحتلال الذين سموه إنتداب لا يمكن ان تكون حكومة مستقلة الرأي والإرادة , ولكن ما قدمته المقاومة العربية في الفلوجة خلال الايام المنصرمة سيسطر في صفحات التاريخ دروساً وعبر ، وسيكون مناراً للشعوب التي ترفض الاحتلال وتصر على حقها في المقاومة، وتدفع أرواحها في سبيل الله ثم الوطن ، وتنقل الصحف الامريكية عن حال الهستيريا التي يعيشها جنودهم في الفلوجة وبما تبثه القنوات الأمريكية لإيذاء شعور المسلمين في كل بقاع العالم وتحدياً وإذلالاً لهم , إن الحديث عن لجنة مستقلة للتحقيق في مزاعم بان قوات التحالف إستخدمت القوة بدون تمييز داخل المناطق المدنية ومنعت المدنيين من دخول المستشفى الرئيسي بالفلوجة وانها أطلقت النار على سيارات الاسعاف ماهي إلا لذر الرماد في العيون .

ما أصعب الحديث عن عمق المأساة الانسانية حيث لا ماء ولاغذاء ولا دواء ولاقوافل إغاثة حتى للمدنيين العزل من أطفال ونساء وشيوخ حقاً إنها مدينة أهلها مجاهدون لذى نرى العقاب الجماعي ينم عن غطرسة وحقد دفين .

لكن ستدرك القوات الغازية أن الإحتلال والعنف لن يطفئا الروح الوطنية والدينية في بلاد المسلمين والدليل على ذلك أن المقاتلين العرب هم المدافعون عن الفلوجة وتحولت الحرب النظامية الى حرب عصابات ولن تتمكن قوات التحالف من السيطرة عليها وستعيد الى الأذهان صورة أمريكا المهزومة في حرب فيتنام فالمقاتلون العرب والمسلمون لازالوا يقاومون في أكثر من مكان ولاتوجد قوة على وجه الأرض ستقضي عليهم أو تتمكن منهم لأنه الصراع الأزلي بين الحق والباطل , وإذا إختفى المقاتل العربي من أمامهم فإنه سيظهر من حولهم ولذا لم ولن تتمكن قوات الإحتلال من السيطرة الكاملة على مدينة الفلوجة ، وها هي مدن العراق تتحول الى بركان يثور في وجه قوات الإحتلال ، إنها تضحيات وصبر وجهاد ، إنها تقدم للتاريخ دروساً في التضحية والفداء والبطولة، فحتى لو كسبوا حرب الفلوجة اليوم فلن يكسبوها غداً ، ولن يكسبوا ما بعد الفلوجة فقوات المقاومة تكبر ككرة الثلج وتزداد في العراق إنتشاراً بفضل ما تقوم به قوات الإحتلال اليوم من مجازر ومذابح سيزيد من مساحة الغضب والحزن والرغبة في الثأر، وإني لأستغرب صمت المرجعيات الدينية الشيعية ! أوليس هتك دم المسلم يستوجب الدفاع عنه ؟! أين حرمة دم المسلم وقد سفكت دماء الابرياء من المدنيين من الاطفال والنساء والشيوخ ؟ إن من يتجرأ ويقول على رؤوس الاشهاد ان ما يجري في الفلوجة هو درس لمعارضي الديمقراطية ! سيلقى جزاؤه وأي ديموقراطية ستفرض تحت ضربات المدافع والطائرات والصواريخ إنها همجية القوة وليست قوة الديموقراطية , أي ديمقراطية تلك التي تقوم على جماجم الابرياء من أهالي العراق الذين أصبحوا لاجئين في بلادهم منكوبين بالاحتلال وأعوانه , إن السائرين في ركاب الاحتلال والمروجين لمشاريعه في السر والعلن ، والداعين لانتخابات مزورة ومشوهة تكرس واقع الاحتلال لن يخرجوا العراق من أزمته الحالية بل سيتحرر على أيادي المقاومة العربية الباسلة ، التي إنطلقت وتشكلت بعد الغزو مباشرة والسبب ان الاعداد لها قد تم مسبقاً فالمخزون العراقي من الأسحلة كبير جداً وهناك قيادات ميدانية متمرسة ومتمكنة من حرب العصابات فالتدريبات لم تذهب سدى وسيولي الادبار كل من تعاون مع قوات الإحتلال , فالاحتلال يولد المقاومة والامعان في القتل ينتج التصميم والإرادة على المقاومة، والثورة ضمّت الى صفوفها رجال دين وزعماء عشائر وخريجي الدورات الايمانية من الاسلاميين المعتدلين فاصبحت ثورة وطنية عربية عامة ، والامثلة الحية في الفلوجة والرمادي والموصل وبعقوبة وغيرها . ويقينا أن الارهاب مرفوض، ولكن كيف نميز بين الإرهاب وبين مقاومة "الاحتلال" فالمقاومة مشروعة بكل الوسائل المتاحة بما فيها استخدام السلاح للدفاع عن الدين والمدنيين وعن المال والعرض والأرض لافي دعم الاحتلال وتعزيز قدراته على أي نحو كان , فمدينة المساجد أصبحت رمزاً ومعقلاً للمقاومة وليست عشاً للإرهابيين فهل بعد الحرب الأهلية ستتحول المحافظات الى ولايات متحدة وتسمى الولايات المتحدة العرقية وتختار عاصمتها الفلوجة , (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) التوبة .14

  
 مصطفى بن محمد غريب
الينوي – شيكاغو
كاتب فلسطيني مقيم في السعودية

الثلاثاء 23 تشرين الثاني 2004



No comments:

Post a Comment